توفيق السامعي
ولاية علي بن أبي طالب بين تزوير الإمامة والحقيقة التاريخية (الحلقة التاسعة)
الساعة 11:57 مساءاً
توفيق السامعي

 

 مؤرخون يبرئون عمرو بن العاص من التحريض على عثمان 

على الرغم من أن كثيراً من الإشارات تشير إلى تحريض عمرو بن العاص على عثمان، نجده يوظف هذا الأمر ضد علي بن أبي طالب، وينحاز ضده إلى معاوية. وتظهر كثير من الروايات أنه إن كان من يتحمل وزر كل تلك الدماء التي سالت من تلك الفتنة فيتحملها عمرو بن العاص دون سواه، فقد لعب بالأمة لعبة الصولجان، بشرط صحة تلك الروايات.

غير أن الدكتور علي الصلابي يفند هذه الرواية وينقدها بأنها عكس ما حدث تاريخياً، فيذكر أنه "لما أحيط بعثمان رضي الله عنه خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجِّهاً إلى الشَّام، وقال: والله يا أهل المدينة! ما يقيم بها أحدٌ فيدركه قتل هذا الرَّجل إلا ضربه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بذلٍّ، ومن لم يستطع نصره؛ فليهرب، فسار، وسار معه ابناه عبد الله ، ومحمَّد، وخرج بعده حسَّان بن ثابت، وتتابع على ذلك ما شاء الله، وعندما جاءه الخبر عن مقتل عثمان رضي الله عنه وبأنَّ النَّاس بايعوا عليَّ بن أبي طالبٍ، قال عمرو: أنا أبو عبد الله، تكون حربٌ مَنْ حكَّ فيه قرحةً؛ نكأها، رحم الله عثمان، ورضي الله عنه، وغفر له!

فقال سلامة بن زنباغ الجذاميُّ: يا معشر العرب، إنَّه قد كان بينكم وبين العرب بابٌ، فاتَّخذوا باباً؛ إذ كسر الباب. فقال عمرو: وذاك الّذي نريد، ولا يصلح الباب إلا أشافٍ، تُخرج الحقَّ من حافرة البأس، ويكون النَّاس في العدل سواءً، ثم تمثَّل عمرو بن العاص بهذه الأبيات: فَيَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى مَالِكٍ أَيصْرِفُ مَالِكُ حِفْظَ القَدَرْ أَنَزْعٌ مِنَ الحَرِّ أَوْدَى بِهِمْ فَأَعْذُرُهُمْ أَمْ بِقَومِي سَكَرْ ثمَّ ارتحل راجلاً يبكي، ويقول: يا عثماناه! أنعي الحياء والدِّين .. حتَّى قدم دمشق( ).

وهذا ابن الجوزي يروي رواية أخرى غير رواية الواقدي عن عمرو بن العاص، فقال: "لما أحيط بعثمان، خرج عمرو بن العاص من المدينة، وقال: من لم يستطع نصر هذا الرجل فليهرب، فسار وسار معه ابناه، فبينما هو في بعض الأماكن مر به راكب، فقال: ما الخبر؟ قال: تركت الرجل محصوراً، ثم مكثوا أياماً فمر بهم راكب فقال: قتل عثمان وبويع لعلي. فارتحل عمرو وابناه وهو يبكي بكاء المرأة ويقول: واعثماناه، حتى نزل دمشق، وبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة، فقال: استأن وانظر ما يصنعون، فأتاه الخبر أن طلحة والزبير قتلا، فارتج عليه أمره، فقيل له: إن معاوية يحرض على الطلب بدم عثمان، فقال لابنيه: ما تريان؟ فقال عبدالله: أرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك، حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. فقال محمد: أنت ناب من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت ولا ذِكر.  فقال: أما أنت ياعبدالله فأمرتني بما هو خير لي في آخرتي، وأسلم لي في ديني. وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو أنبه لي في دنياي وشر لي في آخرتي. ثم خرج عمرو حتى قدم على معاوية"( ). 

أياً يكن من أمر بالنسبة لعمرو بن العاص، أكان مع عثمان أم ضده، أخدع علياً أم لم يخدعه، فإن مواقفه كلها مع معاوية سواء في قضية التحكيم، أو الإشارة عليه بتوريث الحكم أو غيرها، سنجد أن لعمرو بن العاص يداً في كل ذلك الصراع والفتنة وحسابه على الله تعالى، وهو أخبر بالجميع.   

وبعد قراءة متأنية ومتدبرة لبعض الروايات القائلة إن عثمان رفض حماية الناس له والدفاع عنه، نجدها غير صحيحة من عدة أوجه؛ فقد كان يسير الوفود تلو الوفود للتفاوض مع المحاصرين له الثائرين عليه، وكان يستعين بعلي في كل مرة، وهذا الأمر يدحض التقول على علي أنه كان ضمن المحرضين عليه الممالئين للثائرين عليه أو أنه قصر في الدفاع عنه، ولما نزل الثائرون منطقة مخشب لحصار عثمان قال لعلي: "يابن عم، إنه ليس لي مترك، وإن قرابتي قريبة، ولي حق عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبحي، وأنا أعلم أن لك عند الناس قدراً، وأنهم يسمعون منك، فأنا أحب أن تركب إليهم وتردهم عني، فإني لا أحب أن يدخلوا علي، فإن ذلك جرأة منهم علي، وليسمع بذلك غيرهم..."( )..إلخ.

ثم إنه كتب لعماله على الأمصار يمنعوه من هذه الثورة، لكنهم لم يستطيعوا اللحاق به، ومع أن بعض الروايات تقول إن بعض العمال حركوا مناصرين له إلا أن ما نجده عند المؤرخين غير ذلك، فقد بقي عثمان محصوراً أربعين يوماً لم يصل إليه مناصر بل قتل وما معه إلا غلامان يدافعان عنه وقتلا معه بعد أن قتلا قاتلين من القتلة. 

عبدالله بن سبأ..الشخصية الجدلية 

لقد كان للثائرين على عثمان خطتان إن لم تفلح الأولى كانت الثانية؛ فإنهم توقعوا في الأولى أن أهل المدينة سيمنعون عثمانأً ويناصرونه ولا يسمعون قالة الثائرين، فأعدوا الخطة الثانية (ب) بقولهم: إنهم إن لم يسمعوا لنا كدناهم وفرقنا جماعتهم" [أي أعملنا المكيدة فيهم]( )، وهو ما كان فعلاً وسلكوا كل مسلك للكيد، على بعض الروايات.

من هنا بدأوا ضرب الصحابة بعضهم ببعض وعلى رأسهم علي وطلحة والزبير، واختيار علي بعد ذلك للخلافة؛ فتوافقت هذه المكيدة مع واقع الحال الإضطراري لترشيح علي من أهل المدينة بعد مقتل عثمان حتى لا تفرق جماعة المسلمين. ومن ضمن هذه المكيدة أن بدأ عبدالله بن سبأ التنظير لوصاية علي لشق عصا المسلمين من ناحية وإذكاء الفتنة من ناحية أخرى. فأثناء حملة التحريض والتعبئة ضد عثمان من قبل السبئي والثائرين، بدأ السبئي يظهر مصطلح "الوصاية والقرابة والوزارة" لعلي. قال ابن سبأ: "إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية محمد صلى الله عليه وسلم، ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتناول أمر الأمة؟! ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر"( ).

  مدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضايا، والتي بذرها السبئي، سنجده بعد ذلك هو نفس المدخل الذي تدخل به الإمامة والشيعة الهادوية للتحريض والخروج على الدول والحكام، ومدخل للانقلابات المختلفة، خاصة في اليمن، حتى بين مشاريعهم البينية في الصراعات الداخلية الإمامية، ولذلك ركزوا اليوم في هذا المدخل كيف يستغله الحوثي في خطاباته المختلفة واتخذه وسيلة للإرهاب والقمع والخروج على الدولة والانقلاب منذ اللحظات الأولى. كان ابن سبأ من يهود اليمن، وأسلم تقية حتى يبقى في المدينة ولا يتم نفيه وإخراجه مع اليهود من جزيرة العرب، ولعب دوراً كبيراً مع بعض أتباعه في إذكاء نار الفتنة على عثمان، ثم بعد ذلك بين علي ومعاوية.

ومع أن معظم الشيعة، وخاصة الإثني عشرية، تنكر وجود شخصية ابن سبأ هذا، إلا أنهم يعودون فيقرون بذلك، وأنه التقى علياً وألهه، فبعض الروايات تقول بأن علياً قتله وحرقه بالنار، وبعضها تقول إنه نفاه إلى المدائن. يقول الموسوي في كتابه "لله ثم للتاريخ": "إن الشائع عندنا معاشر الشيعة أن عبدالله بن سبأ شخصية وهمية لا حقيقة لها، اخترعها أهل السنة من أجل الطعن بالشيعة ومعتقداتهم، فنسبوا إليه تأسيس التشيع ليصدوا الناس عنهم، وعن مذهب أهل البيت. وسألت السيد محمد الحسين آل كاشف الغطاء عن ابن سبأ فقال: إن ابن سبأ خرافة وضعها الأمويون والعباسيون حقداً منهم على آل البيت الأطهار، فينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه بهذه الشخصية.

ولكني وجدت في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) ص40-41 ما يدل على وجود هذه الشخصية حيث قال: "أما عبدالله بن سبأ الذي يلصقونه بالشيعة، أو يلصقون الشيعة به، فهذه كتب الشيعة جميعها تعلن بلعنه والبراءة منه.."، فلما راجعته في ذلك قال: إنما قلنا هذا تقية؛ فالكتاب المقصود بذلك هو أهل السنة"( ).   ويضيف: "بيد أنا إذا قرأنا كتبنا المعتبرة نجد أن ابن سبأ شخصية حقيقية حتى وإن أنكرها علماؤنا، أو بعضهم، وإليك البيان:

1- عن أبي جعفر (عليه السلام) "أن عبدالله بن سبأ كان يدعي النبوة، ويزعم أن أمير المؤمنين هو الله – تعالى عن ذلك – فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فدعاه، وسأله، فأقر بذلك وقال: نعم، أنت هو، وقد كان قد ألفى في روعي أنت الله، وإني نبي، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب، فأبى، فحبسه واستتابه ثلاثة أيام، فلم يتب، فأحرقه بالنار وقال: إن الشيطان استهواه، فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك". 

وعن أبي عبدالله أنه قال: "لعن الله عبدالله بن سبأ إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان والله أمير المؤمنين (عليه السلام) عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا مالا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم" (معرفة أخبار الرجال) للكشي ص70-71.

2- وقال المامقاني: "عبدالله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو"، وقال: "غالٍ ملعون، حرقه أمير المؤمنين بالنار، وكان يزعم أن علياً إله، وأنه نبي" تنقيح المقال في علم الرجال 2/183، 184.

3- وقال النوبختي: "السبئية قالوا بإمامة علي، وأنها فرض من الله – عز وجل- وهم أصحاب عبدالله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم، وقال: إن علياً (عليه السلام) أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا، فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين، أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت، وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟ فصيره إلى المدائن.

وحكى جماعة من أهل العلم أن عبدالله بن سبأ كان يهودياً، فأسلم، ووالى علياً، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى – عليه السلام- بهذه المقالة، فقال في إسلامه علي بن أبي طالب بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي (عليه السلام)، وأظهر البراءة من أعدائه..فمن هنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية" فرق الشيعة ص32-44 4- وقال سعد بن عبدالله الأشعري القمي في معرض كلامه عن السبئية: "السبئية أصحاب عبدالله بن سبأ، وهو عبدالله بن وهب الراسبي الهمداني، وساعده على ذلك عبدالله بن خرسي، وابن أسود، وهما من أجل أصحابه، وكان أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم" المقالات والفرق ص20( ).

ونجد علي بن أبي طالب في نهج البلاغة يحض على قتل أصحاب شعار التأليه له المغالين فيه كالسبئية، وهو ما يرجح أنه قتل عبدالله بن سبأ ولم ينفه. قال: "سيهلك فيَّ صنفان: محبٌ مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغضٌ مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة. وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما إن الشاذ من الغنم للذئب، ألا من دعا لهذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه"( )، وقيل قصد به الخوارج، لكن الأرجح هو شعار السبئية كونهم غالوا فيه وألهوه.  وهو نفس الأمر في المغالاة فيه عند الشيعة اليوم وخاصة الإثني عشرية الجعفرية التي تؤلهه يومنا هذا. 

 وإن صحت رواية نفي ابن سبأ إلى المدائن، حيث بقية الفرس والشعوبية فهذا يعني أنه ذهب إلى مكان مموليه وداعميه في تلك الفتنة، وأن من تشفع فيه لدى علي قد يكونوا من أتباعه، لذا تم الإبقاء عليه، وببقائه بقيت جذور الفتنة، وزراعة التشيع والرفض كتنظيم خفي حتى آتى ثماره لاحقاً.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص